
مقدمة
أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي مؤخرًا تقريرًا بالغ الأهمية يحمل عنوان "المدرسة الجديدة، تعاقد مجتمعي جديد من أجل التربية والتكوين: من الرؤية الاستراتيجية إلى الرهانات التربوية المستقبلية". يكتسي هذا التقرير الرسمي أهمية استراتيجية كبرى، ليس فقط لأنه يقدم رؤية متكاملة لمستقبل المدرسة المغربية، بل لأنه يأتي في سياق تفعيل وتنزيل مضامين الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 والقانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي.
وفقًا لمنظور التقرير، لا تمثل "المدرسة الجديدة" مجرد إصلاح جزئي أو ترميم للمنظومة القائمة، بل هي تجسيد لتعاقد مجتمعي جديد بين الأمة ومدرستها. إنها مشروع مجتمعي طموح يهدف إلى إرساء مدرسة جديدة للجميع، قوامها الإنصاف والجودة والارتقاء بالفرد والمجتمع، وتضع نجاح المتعلم وتنميته الشاملة في صلب اهتماماتها ومحور عملها الأساسي. لهذا السبب، يُعدّ هذا التقرير وثيقة مرجعية أساسية لجميع الفاعلين التربويين، وخصوصًا للمهنيين والمقبلين على اجتياز المباريات الداخلية في مختلف مجالات الإدارة التربوية والتفتيش والتخطيط والتوجيه التربوي.
يستعرض هذا المقال المحاور الرئيسية السبعة التي تناولها التقرير، مع التركيز على التفاصيل والأفكار الجوهرية المستمدة مباشرة من الوثيقة الرسمية.
المحور الأول: الاستعداد للرهانات التربوية المستقبلية
يستهل التقرير بتحليل معمق للتغيرات الكبرى التي يشهدها العالم والمغرب، وآثارها المتوقعة على مستقبل المنظومة التربوية. وتشمل هذه التغيرات التحولات الرقمية المتسارعة (بما فيها الذكاء الاصطناعي)، التغيرات المناخية، تطور سوق الشغل، التحولات القيمية والاجتماعية، والتطورات الديموغرافية. يؤكد التقرير على أن المدرسة الجديدة يجب أن تستشرف هذه الرهانات وتستعد لها استباقيًا.
لمواجهة هذه التحديات، يشدد التقرير على ضرورة تغيير المنظور تجاه التربية والتكوين، بحيث لا يُنظر إليهما كمجرد قطاع وزاري، بل كمشروع وطني استراتيجي وحيوي لمستقبل البلاد. وهذا يستدعي، حسب التقرير، تجاوز منطق السياسات القطاعية المنعزلة وتبني حكامة مشتركة وتشاركية تضمن انخراط جميع الفاعلين (الدولة، الجماعات الترابية، الأسرة، المجتمع المدني، القطاع الخاص) في إطار رؤية استراتيجية وطنية متكاملة. إن تثمين الرأسمال البشري، عبر تعليم جيد ومنصف، هو المدخل الأساسي لتحقيق التنمية المستدامة والارتقاء بالمجتمع.
المحور الثاني: نحو الاستقلالية الذاتية لمؤسسات التربية والتكوين
يطرح التقرير تحولًا جذريًا في نموذج قيادة المنظومة، مرتكزًا على جعل المؤسسة التعليمية "مؤسسة قائمة الذات". هذا المفهوم يعني تجاوز النظرة التقليدية للمدرسة كآخر حلقة في تسلسل إداري هرمي، لتصبح كيانًا يتمتع باستقلالية ذاتية تنظيمية أكبر في تدبير شؤونها التربوية والإدارية والمالية، ضمن إطار تعاقدي واضح مع السلطات المعنية.
تستند هذه الاستقلالية، وفقًا للتقرير، إلى مبادئ وقواعد حكامة جديدة أهمها:
- المسؤولية والمحاسبة: ربط الاستقلالية الممنوحة بالمساءلة عن النتائج المحققة.
- مبدأ التفريع (Subsidiarity): إسناد المسؤوليات إلى المستوى الأقرب من الميدان القادر على ممارستها بفعالية.
- ثقافة التعاون: تجاوز منطق العمل المنعزل داخل المؤسسة، وتشجيع العمل الجماعي والتشاركي بين المدرسين، وبين المؤسسات، ومع مختلف الشركاء.
- المؤسسة المتعلمة: جعل المؤسسة فضاءً للتفكير المستمر، والتطوير الذاتي، والابتكار التربوي، والتكيف مع المستجدات.
إن الهدف من هذه الاستقلالية هو تحرير الطاقات الخلاقة داخل المؤسسات، وتعزيز قدرتها على بلورة وتنفيذ مشروعها التربوي الخاص الذي يستجيب لحاجيات المتعلمين وخصوصيات السياق المحلي.
المحور الثالث: مجتمع محلي معبأ داعم للمدرسة الجديدة
انطلاقًا من كون المدرسة جزءًا لا يتجزأ من محيطها، يدعو التقرير إلى تجاوز عزلة المدرسة وربطها بعلاقات قوية وعميقة مع مجتمعها المحلي. فالمدرسة الجديدة هي مؤسسة اجتماعية منفتحة، تتفاعل مع محيطها وتستفيد من دعمه وتساهم في تنميته.
ولتحقيق ذلك، يؤكد التقرير على أهمية:
- انخراط الجماعات الترابية: يجب أن يتجاوز دورها الدعم المادي والبنيوي، ليشمل المساهمة الفعالة في مواجهة الخصوصيات المحلية (مثل دعم التمدرس، محاربة الهدر، تكييف العرض التربوي)، وذلك في إطار حكامة تربوية محلية واضحة المعالم تُرسّخ الشراكة والمسؤولية المشتركة.
- تعبئة الفاعلين المحليين الآخرين: يشمل ذلك المجتمع المدني، والقطاع الخاص، والأسر، والمقاولة المحلية، الذين يمكنهم تقديم دعم متنوع (خبرات، تمويل، فرص تدريب، مواكبة).
- تأسيس "مجموعات تربوية محلية": تتكون من المدرسة وشركائها المحليين، تعمل بشكل متناسق لتحقيق أهداف تربوية مشتركة.
إن الهدف هو خلق تعبئة مجتمعية دائمة حول المدرسة، تجعل من تطويرها مسؤولية مشتركة وهمًا جماعيًا.
المحور الرابع: هياكل فعالة للدعم والتوجيه والضبط
يتناول هذا المحور العلاقة بين المدرسة الجديدة (بما تتمتع به من استقلالية) والهياكل الإدارية المركزية والترابية (وزارة، أكاديميات جهوية، مديريات إقليمية). يؤكد التقرير على ضرورة إعادة تحديد أدوار هذه الهياكل لتنتقل من منطق الرقابة العمودية والتنفيذ الحرفي للتعليمات، إلى منطق الدعم، والمواكبة، والتوجيه، والضبط، وتقييم الأداء.
ويقترح التقرير، استنادًا إلى مبدأ التفريع، إعادة توزيع الصلاحيات والمسؤوليات:
- إصلاح شامل للقانون المنظم للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين (AREF): بهدف تعزيز مكانتها كسلطة جهوية مسؤولة عن تنفيذ السياسة التربوية وتكييفها مع الخصوصيات الجهوية، مع تمكينها من الموارد والصلاحيات اللازمة (جيل جديد من الأكاديميات).
- تعزيز دور المديريات الإقليمية: باعتبارها الهياكل الأقرب للمؤسسات، يجب أن يتركز دورها على الدعم المباشر والمواكبة الميدانية للمؤسسات التعليمية.
- إعادة النظر في الإطار التنظيمي للمؤسسات التعليمية: بما يتلاءم مع متطلبات المدرسة الجديدة، ويشمل ذلك مراجعة المرسوم 02.376، وإعادة هيكلة مجالس التدبير، وتوضيح الأدوار.
- تطوير الإدارة التربوية: التأكيد على ضرورة مهننة وظيفة الإدارة التربوية، وتوفير منصب حارس عام مكلف بالتلاميذ في جميع المدارس الابتدائية لمعالجة المشاكل التنظيمية التي تعاني منها، وتعزيز أدوار المديرين.
الهدف هو بناء علاقة جديدة بين المدرسة وهياكل الدعم، قائمة على الثقة والشراكة والفعالية، لخدمة المشروع التربوي.
المحور الخامس: النموذج البيداغوجي الجديد والمهن التربوية
يشكل النموذج البيداغوجي جوهر المدرسة الجديدة وأساس اضطلاعها بوظائفها. يدعو التقرير إلى تجاوز النموذج التقليدي القائم على التلقين والحفظ، وتبني نموذج بيداغوجي جديد ومندمج، قوامه:
- التركيز على المتعلم: جعله محور العملية التعليمية التعلمية، وتنمية مهاراته العليا (التفكير النقدي، الإبداع، حل المشكلات، التعاون).
- مناهج وبرامج متجددة: مراجعة المناهج والبرامج والتكوينات لتكون أكثر ملاءمة لمتطلبات العصر وحاجيات المتعلمين وسوق الشغل، مع التركيز على الكفايات الأساسية والقيم.
- مقاربات بيداغوجية نشطة: تشجيع البيداغوجيات التي تشرك المتعلم بفعالية (المشروع، اللعب، التعلم بالخطأ...).
- تجديد نظام التقييم: الانتقال من تقييم يركز على استرجاع المعارف إلى تقييم يقيس الكفايات والمهارات وقدرة المتعلم على توظيفها.
- تطوير منظومة التوجيه المدرسي والمهني والإرشاد الجامعي.
هذا التحول البيداغوجي يتطلب، حسب التقرير، إعادة الاعتبار للمهن التربوية وتثمينها:
- مهننة عالية: تطوير التكوين الأساس والمستمر لجميع الأطر التربوية والإدارية، وتعزيز كفاءاتهم.
- تنوع الوظائف: الاعتراف بتعدد الأدوار داخل المنظومة (مدرسون، مديرون، مفتشون، موجهون، أطر دعم...).
- إرساء تعاقد ثقة: بناء علاقة جديدة مع الأطر التربوية قائمة على الثقة، والتقدير، وتحسين ظروف العمل، والتحفيز المادي والمعنوي.
المحور السادس: العمل على التقاء السياسات العمومية للمدرسة الجديدة
يعاني النظام التربوي المغربي، كما يشير التقرير، من تجزئة وانغلاق مكوناته (تعليم مدرسي، تكوين مهني، تعليم عالي، تعليم عتيق...). تعمل هذه المكونات غالبًا بشكل منعزل، دون تكامل أو تنسيق كافٍ، مما يؤدي إلى ضعف الفعالية، وهدر الموارد، وصعوبة بناء مسارات تعليمية وتكوينية مرنة ومتكاملة للمتعلمين.
لمعالجة هذا الإشكال، يدعو التقرير إلى:
- إزالة الحواجز العمودية: العمل على تحقيق التقائية وتكامل أكبر بين مختلف مكونات المنظومة.
- تطوير آليات الدمج والجسور: تسهيل المرور والتنقل بين مختلف المسارات والأطوار التعليمية والتكوينية (مثلاً، بين التعليم الإعدادي والتكوين المهني، بين الثانوي التأهيلي والتكوين المهني ما قبل البكالوريا، وبين التعليم العالي والتكوين المهني بعد البكالوريا).
- إصلاح عميق للأسلاك الجامعية الأولى: بهدف جعلها أكثر تكاملاً ومرونة، وتثمين الشهادات الوسيطة (مثل الدبلومات الجامعية العامة أو المهنية أو التقنية بعد سنتين من الدراسة).
- دمج وتكامل مدارس تكوين الأطر والجامعات: في أفق بناء أقطاب للتميز والبحث.
الهدف هو بناء منظومة تربوية متماسكة ومتجانسة، تضمن التنسيق والتعاضد بين جميع مكوناتها لخدمة المتعلم والمجتمع.
المحور السابع: قيادة التغيير
يقر التقرير بأن تحقيق التحول المنشود نحو المدرسة الجديدة يمثل تحديًا كبيرًا يتطلب قيادة فعالة للتغيير. هذا التغيير النسقي العميق لا يمكن أن يتحقق بقرارات فوقية أو بإصلاحات جزئية، بل يستلزم استراتيجية شاملة وطويلة النفس، ترتكز على:
- تعبئة مجتمعية مستدامة: حشد انخراط والتزام جميع الفاعلين (مؤسسات، مهنيون، أسر، مجتمع مدني...) حول مشروع المدرسة الجديدة.
- إبراز فهم مشترك: بناء رؤية مشتركة وواضحة حول أهداف المدرسة الجديدة ومقوماتها ورهاناتها.
- تهيئة سياق سياسي مناسب: ضمان الدعم السياسي اللازم واستمراريته لتوفير شروط نجاح الإصلاح.
- وضع آليات عملية لتفعيل الرؤية الاستراتيجية: يتضمن ذلك ترجمة التوجهات الكبرى إلى خطط عمل تنفيذية، وتوفير الموارد، ووضع آليات للمتابعة والتقييم والتعديل المستمر.
يؤكد التقرير على أهمية المقاربة التشاركية في قيادة التغيير، وعلى ضرورة إشراك الفاعلين الميدانيين في جميع مراحل الإصلاح، لأنهم الفاعلون الحقيقيون في تنزيله على أرض الواقع. كما يستلهم التقرير من الخطاب الملكي الداعي إلى الجرأة والابتكار وعدم التردد في إحداث "الزلزال السياسي" الضروري لتحقيق التحول المنشود.
خاتمة
يقدم تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حول "المدرسة الجديدة" رؤية طموحة ومتكاملة لمستقبل المنظومة التربوية المغربية. إنها ليست مجرد مجموعة توصيات، بل هي دعوة إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي حول المدرسة، لتصبح مشروعًا مجتمعيًا حقيقيًا، ومؤسسة قائمة بذاتها، ومنفتحة على محيطها، وقادرة على تكوين مواطن الغد المتسلح بالكفايات والقيم اللازمة لمواجهة تحديات المستقبل. إن تحقيق هذه الرؤية، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالرؤية الاستراتيجية 2015-2030، يتطلب تضافر جهود الجميع، ونفسًا إصلاحيًا طويلًا، وإرادة سياسية قوية، وانخراطًا فعليًا لجميع الفاعلين، وفي مقدمتهم نساء ورجال التربية والتكوين.